صحراء نيوز - بقلم : عبد الصمد الباز
أحيانا يصبح الاستماع إلى قطعة موسيقية أمر يتعدى حدود الاستمتاع بكلماتها و لحنها، إذ ينقلب إلى مغبة تلتقي فيها الأحزان و الذكريات و الدموع فتكون مزيجا موحدا يختزل بكاء الذات في مشهد درامي. لكل واحد منا قصة أو ذكرى، أو لنقل لحظة فريدة من لحظات الحياة العابرة، راسخة في الذهن و مختومة بلحن و قافية فريدين. فوقتما أطلق العنان لهذا المقطع الثمين تسارعت بذلك الذاكرة في كشف الغطاء عن ما هو قابع في باطن المرء و عجلت بظهور أحاسيس دفنت حية في وقت من الأوقات.
إذا كانت كل النساء تبكي في وقت الضيق نظرا لفصاحة مشاعرهم و صدقها، فامرأتي كانت تضحك كلما اشتد الألم بها ثم تنظر إلي وكأنها المرة الأخيرة التي ستلتقي فيها نظراتنا، فتقول: ‘‘ لكل زهرة نهاية ’’. في كل مرة كانت تنطق بهذه الكلمات كان أملي يهوي إلى الأرض فيسحبني معه إلى مدى مظلم و كئيب، بهذه الكلمات كنت أموت لدقائق ثم أعود للحياة جثة يائسة، ولأني لا استطيع مجارات إيقاعهم ولا أقوى على ردعهم فما افعله هو الصمت أمام جلالتهم لعل من يصدرهم يلحظ غيابي التام فيقرر الصمت هو كذلك حتى تبقى معاناتنا فقط سرية، فكفانا الجهر بها حتى لا تتضاعف وتزيد من عمق الجراح. كانت مريضة، لعله كان مرضا و حسب، بل كانت ميتة و هي على قيد الحياة، انه سرطان الدم. لازلت أتذكر وهي تنظر إلى الناس بابتسامة مزيفة حتى لا تذقهم مرارة الفراق القريب، أتذكر كلماتها المعدودة على رؤوس الأصابع، أتذكر طلبها لكوب من الماء و هي عاجزة عن الحراك، أتذكر نظراتها إلى أمها و أبها و كأنها تستنجد في داخلها: ‘‘أرجوكما ساعداني’’، أتذكر نداءها لي، باسمي، وسط الحاضرين، أنا الغريب في حضرة الغرباء، اقترب و أدنو من وجودها النسبي، إلى أن أحس بنبضات قلبها المتلعثمة فأقف وكأنني شخص تائه بين القبور و بيده زهرة تذبل في كل لحظة و هنيهة، ماذا عساي أن افعل؟ لست ذوا مال و جاه، لعلني أجد به الدواء في مكان ما وراء البحار، ولست مؤمنا حقيقيا كي يتقبل الله دعواتي، و لست حتى مستقلا كي أبيت الليل بجوارها، امسح دموعها و أضم ضعفها إلى
صدري الخالي من كل شيء ماعدا نبضات قلب جريح لا زال يتشبث ببصيص من الأمل. كانت امرأتي تموت في كل دقيقة تتنفس فيها ما تبقى من هواء الحياة، وحينما ينقضي النهار توقن كما هو الحال بالنسبة لي أن ما يفصلها عن عتمة القبر سوى صيحة و دمعة. تركت العمل وأسرتي و ملابسي و ماضي و مستقبلي، تركت الرفيق و الصديق و كل ما يربطني بالعالم حتى لا يلهيني شيء عن رؤيتها تفارق الحياة و تفارقني أنا أيضا، حتى لا اترك عيناها تنام للأبد دون أن أقص عليها حكاية "لكل زهرة نهاية"، وارى بذلك آخر ابتسامة لها لعلها تشفي غليلي من رحيلها الحزين.
تضحك النساء في وقت البهجة و السرور، فتراهن مشرقات فاتنات، تملؤهن الحياة من كل جانب حتى يتهيأ لك أنهن ملائكة في صورة إنسان، أما امرأتي فقد غادرت الابتسامة محياها فغدا وجهها كلوحة بدون ألوان، بياض و سواد، وردة فقدت أوراقها و عطرها و لونها، جسد بلا روح. لم تعد تأبه للوجود، ولا حتى لأولئك الذين يتزامنون على رؤيتها في كل لحظة، لم تعد تكترث لوجود والديها لأنها أيقنت في الأخير أنهما بلا حول ولا قوة، و لم تعد تطيق نفسها وهي ممتدة فوق السرير وآخرون يحذقون في صورتها وهي تنتقل من عالم إلى آخر. أما أنا فقد كنت اكلمها في السر، احضنها و اقبلها و أواسيها و أمازحها و استمع إليها..كل هذا كان يحدث فقط في مخيلتي، وربما في مخيلتها هي أيضا. كانت تقول الكثير بعينيها، تضحك و تبكي بهما، والقليل من الحاضرين من كان يفهم تلك اللغة. فلا زلت أتذكر تلك اللحظة عندما ظهر في التلفاز زوجين وسط هالة من البالونات، يمسك كلاهما يد الآخر وعلى وجهيهما ابتسامة لا مثيل لها، فعندما أدرت وجهي صوبها لمحت الدموع تتسارع من عينيها كسريان نهر غاضب، لمحت إنسانا عاجزا عن تحقيق رغبة طبيعية، لمحت حلما في هيئة جنين سيجهض فيما يقل عن يوم وليلة، "يا لله انه فقط حلم بسيط، حلم كل نساء الأرض الشرفاء..فلا تحرمها منه في دنياك"، هذا آخر دعاء غير مقبول تطاول عليه لساني، وبعده رفعت الجلسة. اغتيل ما تبقى من الكلمات في لسانها، وشلت حركتها كليا، بل وحتى الدموع جفت من عينيها. لم تعد تنتمي إلى عالمنا منذ الآن. أطلقت رصاصة الرحمة و علت جلبة أهلها فوق كل ضجيج. وعندما اقتربت منها بدت على محياها ابتسامة بارزة و كأنها تقول "لم اعد الآن شغلكم الشاغل". لقد توفيت أمام أعين الجميع حتى الصغار منهم، فعم المكان صخب من البكاء و النواح و تهاوت الأجساد و احد تلو الآخر وكأن بهم صخور تتهاوى من أعالي الجبال.
أما أنا فقد بكيت و تهاويت عديد المرات لكن فقط في مخيلتي، ولأن موتها هذا ابتلاء فلا يصح إلا تقبله علانية، وان أراد المرء الانفعال فليثر لكن فقط في قرارة نفسه حتى لا يزيد جرح الميت جرحا آخر، كما يقولون " الميت يعذب ببكاء الأقارب"، فانا لا أريد لها عذاب آخر فما قاصته وهي حية كاف وزيادة. كان الوداع باردا، كأنك تودع شخصا ما من وراء نافذة شاحنة ما، كأنه وداع من طرف واحد. وداع أنهى معاناتها و فتح الباب على مصراعيه في وجهي على تعاسة ما بعدها تعاسة.
وداع لازلت ألوم عليه نفسي و قلبي و غيرتي و ذوقي و...حياتها حوكمت بموجب القدر، فكان الحكم قاصيا، فمن يستطيع التغلب على القدر سوى القدر نفسه، أما نحن فقليل من الدموع و الحسرة ممزوجان بملح الزمن أمر كافي لقلب الصورة رأسا على عقب، من حزن إلى فرح. هكذا يبدو الأمر للكثيرين، أما بالنسبة لي فالقصة مغايرة تماما، أن أزيح ظلا تعود عليه كياني الصغير، أن ارمي بكل الأحلام التي بنيناها معا في متاهة النسيان، أن أمزق صورها عندما كانت سعيدة بريئة لا تدرك أن ما يخبؤه القدر لا يفرح، أن ألزم نفسي بحب آخر و قلبي لم تضمد جراحه بعد، كلها أفكار أصبحت تؤسس معنى وجودي و تسكن أناي و أناي الأعلى، كلها أشياء لا استطيع مقاومتها. أنا عبد الآن، وكما أخذها القدر و حررها من عذابها أتمنى أن يأخذني أو على الأقل يحررني من أغلال هذا الشبح المستبد.
لم أجد أفضل من هذه الكلمات لكي اختم بها كلامي، انه مقطع موسيقي ل مجموعة Babylone بعنوان " مشيتي" :
"كان يا مكان فقديم الزمان..جاي نفاجي لمحان"
"حد ليلة من ليالي بايت سهران..وحدي شاعل نيران"
"فبالي لحبيب الغالي مدة مابان..يا درا شافي على المكان"
"نغمة تجيب نغمة غارقة في الاحزان..دموعي دايرة ويدان"
"قوليلي مالك يا بنية..كويتي قالبي فحكاية"
"جيت نغاني ليك غنية..غبنتيني ؤ درتي علييا"
"خلتني وراها و سارت..ماشييا—ترجيت ليها وماجاوبت..خليوها هانيية".
*طالب و باحث _ ماستر الدراسات الانجليزية_ تخصص اللسانيات.