رأيت عداد الساعة في يدي اليسرى فإذا الساعة تشير إلى الواحدة زوالا، تركت الشمس خلفي، ترسل لي أشعتها التي تنعكس على زجاج السيارات، فتصيب عيناي اللتان تستسلمان بسهولة للأشعة. شارع عين الرحمة مليئ بالمارة وأصحاب المحلات، منها محلات تجارية وأخرى للمحادثات، هذه الأخيرة؛ بداخلها صاحب المحل حوله شيوخ كبار، صوتهم يعلو في السماء، ومنهم من يدخن منيجة ويتحدث بصوته الجهوري كأنه يبدأ حكاية للمستمعين. اقتربت من الملعب، الذي تبدو مدرجاته كسلم عال للطائرات، لون أبيض يلمع من هناك يزيح الهم عن النفس.
ما أن اقتربت من سليسلة، حتى انعطفت على اليسار ودلفت إلى الشارع الرئيسي، منازل حي الطانطان الأبيض وضعت في أزقة تشبه منحدرات الجبال، بناؤها تقليدي أصيل، غير متساوية بل هي منازل متفاوتة كالمنحنيات. الحمد لله أنني لم التق أحدا من معارفي في الشارع، فيه فقط سيارات تجوب والمارة يسيرون فرادى. صعدت الزقاق، فطرقت الباب. خرج ابن خالتي شاكر، فرحب بي وعلى وجههه ابتسامة لاتفارق محياه الأبيض وعيناه الواسعتان. سلمت على خالتي وزوجها، فأصخت السمع، فإذا بصخب آت من الجهة اليمنى داخل الصالة، فدخلت لأجد رجال يتحلقون حول مائدة قصيرة القوائم، عرفتهم كلهم كانوا تسعة رجال، أقبلت عليهم لأقبل رؤوسهم، فبدأت بتقبيل رأس بابا الطرشاني، وعبداتي ولد ديدي، وحمدي ولد لفضيل، والسالك ولد لفيطح، ومحمدلمين ولد السيد، ولحسن النجار، وبوجا، والسالك ولد لحسين وماء العينين ولد أواه. رحبوا بي، فعادوا إلى لعبهم،. كانت الصالة التي نجلس فيها طويلة عريضة، أفرشتها رائعة، ذات لون أحمر ومناضد صفراء.
كان السالك ولد لفيطح، يقول: سأهزمكم هذا اليوم، وغدا نولم وجبة الغداء عند الخاسر. يبتسم عبداتي ولد ديدي ويقول: ستخسر يا ولد لفيطح سنولم غدا وليمة كبش عندك. سمعت صوت لحسن يعلو السماء ويقول بالإسبانية دوس 2. كانوا يشعرون بسعادة لا توصف، بينما انا أشعر بأسى وحزن عميق، لأنني افتقدت حبيبتي مانا واشتقت إليها. انتهت لعبة دومينو، دخل علينا رجل طويل القامة، ذو وجه أبيض لامع، يرتدي دراعة بيضاء تملأ عيناك بهاء، قال لي ابن خالتي شاكر: قم لتسلم على عمك محمد الغالي ولد أخطور، قبلت رأسه وتناولنا عقبها وجبة الغداء. انسحبت لأترك الرجال يلعبون لعبة دومينو. خرجت من منزل خالتي، بخطى وئيدة، وجسد يتوق لو يطير في السماء ويلتقي حبيبته مانا، فينعم بالأمن والأمان، في حضن مليئ بالحب والحنان. تشير الساعة إلى الرابعة عصرا، الشمس بدأت تودع السماء، وصوت الأذان يسكن الأذهان ويفتح الحياة على كل إنسان.
زرت صديقي علي، طرقت باب المنزل. فطل كطائر من النافذة بصوته الغليط: من هناك؟ أنا. أحكم إغلاق النافذة باحكام، فهبط ليفتح الباب، فتحه، فسلمت عليه وقلت له: هيا بنا يا علي إلى أين؟ إلى المستوصف. خيرا. خير. قطعنا واد بن خليل الذي طوله لا يحد العين، وسمعنا زقزقة الطيور في الوادي، ورائحة عطنة لفحتنا منبعثة من ماء الواد الملوث والمعشوشب بطحالب خضراء. اقتربنا من القارب الإسباني وانعرجنا مباشرة إلى الشارع. فبدأ يسألني. ألم ترى اللود؟ _ منذ حفل الزفاف ابنة خالته لم أراه. وصلنا المستوصف، دخلنا من بابه، فرحب بي الحارس، الذي رأسه يشبه قاربا صغيرا. فأضاف بصوته الرقيق كفحيح الأفعى: أين المريضة التي كانت تجالسك هنا منذ عام؟ فحدجته بنظرة ملؤها حنق. شفيت ولله الحمد. بدا صديقي علي يسأل عنها فقلت له: إنها شابة من العائلة كنت أزورها هنا. اقتربت من الكرسي الذي كنت أجلس فيه مع حبيبتي مانا، ونظرت إليه، وبدأ قلبي يخفق، وشعرت بجسمي يذوب كقطعة من الذهب، شعرت ببرد يسري في جسدي كدبيب نمل. طار ظلي من أمامي. اختفت الشمس، فبدأ نسيم الهواء يتداخل مع حركتي الشهيق والزفير. شعرت بأنها هنا، نعم، نعم إنها هنا.
حملق صديقي علي في وجهي فقلت له :دعني أتأمل قليلا. كانت السماء تودع ضوء النهار، لتترك المكان لشبح أسود اسمه الليل، تخيلت مانا بوجهها الأبيض وعيناها التي تتسعان كلما ابتسمت، لتظهر أسنانها الناصعة بالبياض كقطعة جليد في شمال سيبريا، كان فمها مثل وردة تفتحت في ربيع العمر. سقطت عبرات من مقلتي، وأنا أودع تلك اللحظات. فعدنا أنا وعلي، من جهة العمالة صوب حي الدوار، وصلنا مسجد خر، فقال لي علي هل أنت جاهز ؟ فقلت لماذا ؟ فقال للركض. اقتربنا من بيت صغير، ليس بالكببر، فصرخ علي ملء فمه: لحسن بجك، بجك. خرج لحسن بقامته القصيرة فبدأ يشتم ويحمل الحجارة ليرمينا بها، فهم يتبعنا بسرعة فهد، فركضنا نحن بسرعة تفوق سرعة البرق حتى وصلنا جردة شكاف.
كل ما كتبته هو من وحي خيالي* يتبع...