صحراء نيوز - بقلم : فيصل رشدي
انتهى حفل الزفاف عقب سبعة أيام، كانت في نظري أجمل أيامي بمدينة الطانطان. جلست بعدها أتأمل مشهد الوداع، ورحيل الأحباب عن مدينة الأحلام الطانطان. بدأ السفر، فجمع الأهالي رحيلهم، متجهين صوب العديد من المدن: الداخلة، بوجدور، العيون، السمارة.
لم يبق في المدينة سوى أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع، كنت أنا واحدا منهم. كانت رسائل مانا تصلني عبر الكوفة( شاحنة ذات حجم كبير، لونها أحمر) ، وهي الوسيلة الوحيدة التي تمر عبر الصحراء تشق رمالها الرطبة كالحرير حينما يراقص أصابع اليد .
وصلت حبيبتي "مانا" إلى الداخلة رفقة أهلها وعائلات طانطانية أخرى. فأرسلت إلي رسالتها الأولى ، تقول لي فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. التاريخ 1980/03/15 مدينة الداخلة أما بعد... ها نحن بعد عام من الغياب نعود، أكتب إليك من الداخلة التي دخلتها عاما ولم أنس الطانطان أعواما.
اشتقت إليك شوق الظمآن لبحيرة الماء، فأنت من يروي حلقي وجسدي وروحي. غبت عني، وغابت عني الدنيا، سكنت صورتك بؤبؤ عيني ومخيلتي لقد رسم الحب بين أرواحنا البعيدة ألفة مألوفة لآلاف الذكريات. تذكرتك يا حبيبي، تذكرت مواعدنا في ساحة المستوصف، لحظة غروب الشمس، عندئذ، كنا نرى بأعيننا الشفق البرتقالي، ووهجه الذي يشبه بركانا فائضا في غابات الأمازون. كنا نجلس معا في ذاك المقعد الرائع الذي يبدو للعيان فاقع لونه، لون أصفر يسر الناظرين ويحمل البشرى للمرضى والزائرين. كنا نلتقي هناك عقب كل صلاة عصر، وكنت تراقب الداخل والخارج بعيني صقر يقظ، وتخاف أن يراك إخوتي معي. وقد سألتك ذات مرة عن هذه الطريقة التي نلتقي بها في المستوصف، فأجبتني: إنك تعلمتها من خلال مشاهدتك لمسلسل مصري كنت تبتسم، وتقول لي: لن يفطن أحد للقاءاتنا يا مانا، حتى عفاريت طانطان انسحبوا من المكان أثناء زيارتنا له.
تذكرت مسقط رأسي الطانطان، بكيت بكاء، ملأ واد الذهب وزاده لهبا، واكفهرت شمس الداخلة حزنا، وسكن القمر الغم والهم. سأحكي لك حكاية وصولنا إلى مدينة الداخلة. كنا في الطريق كالمسافرين إلى آخر الدنيا في لاندروفر ذات لون أخضر، سائقها أسمر، قصير القامة، كثير الكلام. حملت الطريق حفرا جعلتنا نهتز وقوفا ونهبط أرضا وكأننا نتدحرج، الطريق كلها خطر. نصحنا ابن عمنا قبل، بركوب الطائرة، لكن الأمتعة لا تستطيع أن تحملها الطائرة. كانت المسافة أبعد مما كنا نتوقع، وقلت لأختي إنها ليست الداخلة إنها الآخرة، كنت في الطريق أشبه بفتاة في كهف عميق، مظلم، تلتمس النور وتسعى لرؤيته، بخطى القديسين وشوق المغتربين ومناجاة المتصوفين.
وصلنا الداخلة أخيرا، رأيتها صغيرة الحجم يحوطها غربا البحر وشرقا النهر، وكأنها جزيرة عزلت عن العالم. لفت انتباهي لباس الصحراويين الرجال في زي واحد هو زي الدراعة وللنساء زي واحد هو الملحفة، ولازالت أثار لأهل موريتان، تظهر للزوار. أثناء مرورنا ، رأيت شيوخا في طريقنا، يتحلقون كدائرة ويفترشون الأرض وتظللهم السماء بغيومها وهم يلعبون ضامة. حدقت في عيون.ذلك الشيخ، عيناه كبيرتان، وفمه صغير، وهو يدخن غليونا محلي اسمه "منيجة" لها طريقة إعداد تشبه من يحمل بندقية في يده ويجعلها جاهزة لإطلاق الرصاصات. سمعته من لاندروفر يقول لشيخ قربه بالإسبانية كلمة: مديخنة. لم أفهمها إلا لاحقا. كانت الداخلة صغيرة جدا في عام 1980. حي لفطيحات وقربه كنسية تلفت الأنظار وتبعد الأخطار وهناك أيضا حامية عسكرية وقنديل يتراءى من بعيد، كانت أحياء الداخلة صغيرة و أغلبها ذات بناء إسباني موحد البناء واللون.
سكنا حيا اسمه لفطيحات، يقع خلفه نهر جميل، وأمامه شارع طويل، أسود، فيه الكثير من الحفر، يصل امتداده المدخل الشمالي للمدينة. حي لفطيحات، منازله ذات بناء إسباني، متساوية الحجم وكأنها أصابع ليد واحدة. تعكس الشمس أشعتها على المكان فيظهر الجمال يريح عين الناظرين. عندما سمعت واد الذهب، خلته مليئا بالذهب ، لكنه للأسف لا يحمل الذهب ولا يدل أحدا إن ذهب. وسألت صويحباتي الجديدات عن معنى اسمه، لكنهن كن صامتات كصحراء تيرس. يختلف واد الذهب كثيرا عن وادنا الجليل الذي اسمه واد بن خليل. كنا غرباء يا حبيبي، في البداية، لم نتأقلم ولكن الأيام جعلتنا نتأقلم، انخرطنا في طوفان الحياة واندمجنا فيها. كنا مثلهم في كل شيء، نتقاسم معهم الأحاديث في الحوانيت. لكن في الليل كانت أغلب أحاديثنا عن الطانطان الذي لا نمل من أحاديثه أطراف الليل وأناء النهار. حبيبي، ستظل حبيبي، سيظل الطانطان بلدنا؛ منه ولدنا و إليه نعود. والسلام عليكم ورحمة له تعالى وبركاته. مانا. التوقيع. إلى القارئ العزيز، كل ما كتبته هو من وحي خيالي.. يتبع...