تبدو مدينة الطانطان نهارا كقرية شبه مهجورة، وكأن الحياة توقفت لتسريح دقائق، وتكمل مسيرها البعيد. الناظر إليها من بعيد يخال سكانها من قرية الرقيم، تظهر بيوت بنيت بالطين متلاصقة و مصطفة كأحجار الدومينو.
تحوط المدينة سلسلة هضاب عتيدة تسمى عند أهل المنطقة بهضاب " لحميدية " وجبال متوسطة الحجم من الجهة المقابلة، إذ يفصل المدينة واد طويل يشبه ثعبان اسمه واد بن خليل يقسم المدينة قسمين، والناظر إليها سيقول بأن الطانطان هي حفرة بناها أهلها وسكنوها كما سكنت عاد وديان اليمن.
المتجول في المدينة يرى كم الله حباها الله باخضرار بعض أجزائها، ليظل اللون الأخضر لون المدينة، لكنه اصفر مع تقلبات الزمن.
كان السكان في مدينة الطانطان، على موعد مع عرس ابنة شكاف الزهرة، والتي كان حفل عرسها من حكايات ألف ليلة وليلة، ولعل وقعه اليوم ذكرى مليئة بالشوق. صادف زواجها شهر 02 من العام 1979. وكانت مدينة الطانطان أنذاك أجمل بهاء وسعادة، وتآخي بين السكان.
لنبدأ الحكاية من البداية: نوديت إلى حفل الزفاف أنا وباقي أقراني، فلبيت دعوة الحضور. طرق صديقي اللود أباعلي باب منزلنا، وكان يلبس دراعته البيضاء وكأنه ملاك نزل من السماء إلى الأرض.
الدراعة والابتسامة والأجمل أن لون الشمس الأصفر عكس الأشعة ليظهر كنجم من نجوم السينما. ففتح أخي الأصغر الباب، ليرحب باللود، الذي كان يشعر بفرحة لا توصف، دخل علي وأنا أتناول وجبة الإفطار أستمع لمقطع غنائي لمحجوبة منت الميداح. تناولنا وجبة الإفطار معا، حساء أحمر، وتمر عراقي أصيل وودك أبيض، ليتخلل الجلسة رائحة بخور عماني، صعد خيشامنا معا، فأحسسنا بوقع الحياة، وكأننا ولدنا من جديد.
استـأذنت صديقي، فدخلت بيتي، لأرتدي الدارعة الزرقاء وسروالها الأبيض والقميص الأبيض ولكشاط. كانت الشمس قد تربعت السماء، والناس حولنا في حركة سير ذهابا وإيابا.
الأطفال الصغار في شارع عين الرحمة يلعبون لعب بيسو والبي والطرومبية ويضفرون المقلاع. وكانت حلاقة رؤوسهم على شكل عرف أو عريف ويلبسون جلاليب زرقاء، أما الشباب فكان لهم شعر كثيف، وهو شكل للموضة آنذاك. أثناء طريقنا كنا نسلم على كل من يمر أمامنا، وكان السلام يعكس تطلعات الذين نلتقيهم: الرجالة وين كايسة؟ ألا مناسبة أهل شكاف، أو إن شاء موعدنا هناك.
كانت شوارع الطانطان فارغة، انعرجنا من جردة ديابلو مباشرة على وادي ابن خليل، الذي كان غباره يعج من كل الاتجاهات، في الوادي برك مائية، ونقيق ضفادع ونباح كلاب، كان الوادي أشبه بأرض خلاء.
رأيت وجه اللود، الذي كان يبتسم كل الوقت، فرحا بزاوج ابنة خالته، نظر إلي بوجهه قائلا: سبعة أيام يا صديقي بنهارها وليلها، سنرى تلك الفرق التي جاءت من موريتانيا ونجالس الشعراء ونقول أشعار من كيفان الشعر الحساني. صمت. فهم يقول لي: أهو حب مانا؟ أجبته حب مانا أعمانا يا اللود. تركنا الواد خلفنا، ودخلنا زقاق ليس بالعريض ولا الضيق، وصلنا جردة أهل شكاف عقب صلاة الظهر، كانت الخيام عن آخرها، ملأت أعيننا بفخامتها وأفراشتها وهيبتها، رأيت رجالا ونساء من كافة الأعمار.
اقتربنا من الخيمة الكبيرة، فرحب بنا أب العروس، وكانت الخيمة الكبيرة ملئية بالوفود والشخصيات، وجوه حضرت من كل حدب وصوب. ليهمس اللود في أذني قائلا: ألم أقل لك إنه عرس لا كالأعراس.أبتسم، فنظر إلي اللود قائلا: أنظر هناك إنه أبي أبا الشيخ ولد أباعلي، وبجانبه محمد فاضل الخطاط، و الشيخ ماء العينين، وابن الغيلاني ومحمد الغالي ولد أخطور وبابا الطرشاني وعبداتي ولد ديدي وأبك وهناك برك وسعيد ولد باهية ومحمد. وهممت بسؤاله عن الرجال الآخرين، لكنه أشار بسبابته أنه لا يعرفهم. حضر التمر والزبدة ولبن الماعز، كانت الأطباق رائعة وشهية. قدمت لنا كؤوس الشاي الثلاثة، وحينما أهم بشرب واحدة منها: يقول لي: آه يا مانا، فحبيبك باعنا برشفة شاي.
وأهم أنا بالضحك وأقول له : استر ما ستر الله يا اللود، فعل إخواتها هنا. تناولنا وجبة الغداء بشهية أطباق لحم الإبل، وطبق الشعرية المعروفة عند أهل المنطقة بالسفة، وختامها كان مسكا بالفواكه. نظر إلي اللود بمرحه قائلا: هل شبعت؟ مرحبا بك عند أبناء خالتي. أمرني اللود بالجلوس حتى الليل الذي أرخى سدوله، وأنارت الأضواء المكان، كقمر في ليلة مظلمة، لكن النور عم المكان. ما أن رأينا لحبيب الفقير قادما، حتى أقبلنا عليه مرحبين، لحبيب كان شخصية محببة لدى أهل الطانطان، رحب بنا وأجلسنا قربه. فبدأت السهرة، حيث ظهرت نساء من دولة موريتانيا، و نساء طانطانيات بنات الطانطان كن من عالم آخر: ضفائرهن الرائعة المزينة بالخرز، وملاحفهن نصفهن أسود وأبيض، ونكشات، كان الجمال الصحراوي ينطق من وجوههم. المطربات الطانطانيات قعدن على فراش اسمه التركية، فبدأ لحبيب بقرع الطبل، وبدأ سويلم بضرب الكؤوس على طبلة الشاي، وبدأت النزاهة بالغناء لتتبعها تفرح وبجانبهما كل من الشاعرين ديابلو ولد أحميمدي. عندما سمعت صوت النزاهة، طرت إلى أحلام الجمال إلى روعة الصوت وصعوده سبع سماوات بدون تأشيرة.
قرعت الطبول وسمع التصفيق، ظننت نفسي من عالم آخر، بدأت بعض الفتيات بالرقص على طريقة إطلاق الأيادي و تحرك دائري للجسد وتناغم الكل مع نغمات الطبل، ظهر من هناك على الجانب الأيسر شباب الطانطان وهم واقفون وأعينهم على رقص الفتيات. كان الطرب يعم المكان، ولكن اللود بخفة دمه وحبه للمرح، أقسم حتى يعلق النقود على الفتيات اللواتي اتشحن بالسواد وهن يرقصن، لكن اللود جنى على نفسه بتعليق النقود، فأرغمنه الفتيات على الرقص معهم. علت التصفيقات والطبل وصوت النزاهة واتفرح ولحيبب وسويلم يوقظ الأموات من قبورهم، لجماله وتناغمه تبارك الله عليهم.
رقص اللود كل الرقصات ورقص مع أخ العروس وابن الغيلاني أيضا وميارة علي والحنفي العدلي ولد الزفاطي ومحمد لخصاصي. توقف الطرب ليحل محله باب الكيفان دخل الشعراء الموريتانيون على الخط، واستهلوا البداية الشعرية، وعلت الأصوات والتصفيقات وكاد شاعر موريتاني أن ينتصر، لكنه انهزم أمام جبروت الشاعر ديابلو زوج النزاهة، الذي ختم أبياته بمينة قائلا: * مينة ما كانت فالطانطان ما كنتي فيه ولا عدتي ومينة ايلا عادت فالطانطان يسوا ايلا كامت بيك أنت* سبع أيام قضيتها أنا وصديقي اللود في عرس ابنة خالته الزهرة شكاف، سبع أيام كانت آخر أيامي بالطانطان، الذي عشته في ذاك العرس الأسطوري.
* إلى القارئ العزيز كل ماكتبته هو من وحي خيالي لحبي لذاك الجيل الطانطاني الأصيل.